أتصور أن الرأي بدأ يستقر عند نظرية عنوانها يشي بأن النظام الدولي الذي كان جيلي شاهداً على ولادته خلال نهايات الحرب العالمية الثانية، يدخل بالفعل هذه الأيام مرحلة أفوله. السؤال الذي تتقاذفه الآن طاولات البحث العلمي في بعض عواصمنا العربية، يلفّ ويدور في صياغات مختلفة حول التوصيف الأنسب للحال الراهنة في النظام الإقليمي العربي. هذا النظام الذي وُضعت لبناته الأولى في الوقت نفسه الذي شهد صياغة قواعد وسمات عمل النظام الدولي الجديد.

يسألون، ومعهم نسأل، هل دخل النظام العربي بالفعل مرحلة أفول كالتي سبق ودخلها في ثمانينات وتسعينات القرن الماضي النظام الدولي، وانتهت بالتحول إلى نظام آخر عنوانه الهيمنة؟ أم لعله، وأقصد النظام العربي، لا يزال صامداً في حال الكمون التي دخلها قبل سنوات، مع علمنا الأكيد بأن الفرق شاسع بين الكمون، والأفول، عند دراسة أحوال الدول، والعلاقات بينها.

للتذكير، لا أكثر، أعدّد في ما يلي أهم التحولات التي شابت النظام الدولي، أو دخلت عليه، حتى انتهى أمره إلى حال الأفول في انتظار بديل مناسب يحل محلّه. وهو الأمر الذي نعلم كم هو صعب، ومراوغ، وإن بدا للبعض منّا عند الأفق ممكناً، أو قادماً. نرى، وتأكدنا مما نرى:

أولاً: إن القطب المهيمن دخل منذ عقود حال انحدار لم يفلح في وقف استمرار تدحرجها، بافتعال، أو تشجيع نشوب حروب صغيرة هنا وهناك، أو إقامة تحالفات صغيرة في شتى الأنحاء.

ثانياً: إن الصين قطب بالتأكيد صاعد، ولكنه الصعود الحذر. تؤكد لنا المراقبة الجيدة أن الصين على امتداد مرحلة صعودها الاشتراكي، ثم الرأسمالي الموجه، لم ترتكب قفزة واحدة في غير زمانها أو مكانها. نعرف الآن أن دولاً في الغرب، كما في الجنوب، خطت بالفعل، أو تخطو خطوات واسعة نحو الصين، ولم تنتظر أن تبدأ بها الصين.

ثالثاً: صار مطروحاً وفاعلاً الاقتراح بأن كتلة دولية هائلة اتخذت لنفسها اسم «عالم الجنوب»، أو هكذا سُميت في الغرب، رغم أنها لا تزال في طور التكوين. كتلة تتحرك في اتجاهات عدة، ومنها الاتجاه نحو الشرق الأوسط.

رابعاً: السقوط المدوّي المتكرر لمكانة وفاعلية مجلس الأمن، بخاصة خلال أزمة الحرب الإسرائيلية الأمريكية على الفلسطينيين، ومواقف دول الغرب ضد «الأونروا»، والتقاعس عن حماية بعثات المعونة الإنسانية والصحفيين.

سوف يمضي وقت غير قصير قبل أن يتمكن المنظّرون والباحثون من تحليل ثمار التحولات في التفاعلات والعلاقات الدولية، وآثارها في مجمل أنشطة هياكل وقواعد عمل النظام الإقليمي العربي.

يمكنني على كل حال، أن أقترح في ما يلي بعضاً من ثمار وآثار تفاعلات جارية حالياً، بين نظامين، أحدهما في وضع أفول، والثاني صار مصيره محل تساؤل. لاحظنا أن أكثر الثمار معطوب، وأكثر الآثار عميق:

أولاً: اتسعت الفجوة مجدداً بين بعض النخب من جهة، وأغلبية الشعوب العربية من جهة أخرى، حول أساليب التعامل مع القضية الفلسطينية. مرة أخرى نفشل في تغيير موقف الغرب، بخاصة الولايات المتحدة، من الصراع.

ثانياً: تدهور مكانة السلطة في فلسطين لدى مختلف التيارات العربية غير الحكومية. كان موقف السلطة باهتاً ضد غزوات المستوطنين الجدد، وتجاوزات القوات الإسرائيلية في الضفة الغربية، قبل أحداث السابع من أكتوبر. هذا التدهور يعني مكسباً صافياً لإسرائيل. يعني أيضاً أنه صار يمثل عقبة كؤود في وجه أصحاب النوايا الطيبة نحو السعي لتشكيل نظام حكم وطني في مرحلة تبدأ باليوم التالي لانسحاب الاحتلال.

ثالثاً: شهور عدة من العنف المتبادل بين الفصائل المسلحة والقوات الإسرائيلية والمشاركة الملموسة من جانب العناصر السائرة في الفلك الإيراني. تأكد خلال هذه الشهور الغموض المثير المحيط بالدور الإيراني وطموحاته.

رابعاً: على الرغم من بشاعة سلوك إسرائيل، والتعقيدات التي فرضتها على محاولات التوصل لتهدئة القتل، أو وقف دائم لإطلاق النار، أثبت الاتفاق الإبراهيمي صلابته ومناعته في ظروف شديدة التعقيد والقسوة، أسوة باتفاقات الصلح والسلام الموقعة قبل عقود عدة، مع مصر والأردن.

خامساً: لم تعد أغلب الدول العربية تستفيد من عضويتها في الجامعة العربية، سواء في مجال الأمن، أو في مجالات التنمية الاقتصادية. استفادت عندما كانت تسعى للحصول على الاستقلال، ثم راحت تتضاءل الاستفادة حتى كادت تقتصر على عائد التشاور، والأغراض الإعلامية والعلاقات الثنائية.

لا عقيدة قوية جامعة. لا نخبة أو جماعة أكاديمية عربية تقود بالفكر والبحث العلمي التوجه نحو التكامل والأمن القومي. لا منظومة قيم وسلوكات قومية متعارفاً، أو متفقا عليها. لا محظور قومياً في السياسات القطرية العربية الراهنة. لا حصانة، أو مناعة كافية لحدود النظام العربي الخارجية ضد الاختراق من دول وجماعات من خارج النظام. أخشى أن تكون هذه المجموعة من اللاءات كافية، إن رسخت، للدفع نحو الأفول المبكر للنظام الإقليمي العربي.